من تاريخ السجن السياسي.. السجن جامعاً ومفرقاً

تقوم فكرة السجن على ضرورة إخضاع المسجون للحراسة وإشعاره بالمراقبة في كل حركاته. يخضع السجين في النهاية إلى هذه المراقبة ويباشر في تنفيذها فهي الوسيلة الوحيدة التي يخفف بها حدة العقاب. إشكالية العقاب والمراقبة في السجون الحديثة أنها لا تتعلق بالجسد الفيزيائي فقط بل تحاول الدخول بآليات الحراسة إلى الجسد الاجتماعي كما يظهر في العلاقات البينية وتراتيبية السلطة. فتحاول أن تعيد صياغة نموذج المعرفة وإقناعه بفاعلية المراقبة.1
عندما يبدأ السجين السياسي بتحويل تجربته السجنية من تجربة سلطوية إلى تجربة اجتماعية، فإنه يقوم بعمل قطيعة مع قوة العزل والمراقبة للسجن. التجربة الاجتماعية تحدث عادة في شخوص السجناء أنفسهم وتحاول أن تعيد العلاقة مع الخارج، لذا فهي تظل على تماس وتقاطع مع التجربة السلطوية الممعنة في التعذيب والحرمان. لكن الذي يحدث هو أن السجين السياسي (السلطوي) يحظى بالتعاطف من قبل المجتمع ومن قبل جلاديه أحيانا إذا ما كانت تجربته سلطوية فقط. هذا التعاطف يفقد صلابته عندما تحدث للسجين تجربة اجتماعية يعيد بها ترتيب علاقاته مع العالم عبر السجن وآلية الإخراس المعمول بها في السجن.
فتجربة السجن الاجتماعي تتجاوز تجربة السجن السلطوية كأداة للمراقبة والعقاب وما يستلزمه ذلك من توحد واصطفاف جماعي يتمثل في التضامن والاحتواء مع السجين السياسي. كما تزداد قناعة السجين بمراجعة جسده الاجتماعي والسياسي كلما كانت أدوات المراقبة السجنية متفوقة على انجازاته في الخارج، فمهمة السجن هو أن يذكر السجين بخطأ نموذجه وأن يعمل على التفكر في نتائجه المصيرية.
لن نستطيع أن نحدد تاريخ بداية السجن السياسي في البحرين، فالسجون كانت مختلطة وعامرة بالنزلاء. فالمسألة لم تكن محددة بدقة لتسمح بفرز السجين السياسي عن غيره من المجرمين. كانت القاعدة أن السجين السياسي يعامل كما هي معاملة المجرمين والخارجين ضد المجتمع، ولعل عقد الخمسينات كانت نقطة تحول في فرز السجناء والتفريق بين المعتقلين فأصبح من الممكن حجز المعتقل وتفريقه عن السجين أو المجرم الاجتماعي.
بعد تلك الأحداث التي مرت بها البحرين وما تلاها من تطورات سياسية تكونت فئة السجناء السياسيين وبات من الطبيعي أن يتحدث المجتمع عن مصير هؤلاء ونوعية المحاكمة التي سيمثلون أمامها والعقوبات التي ستقع عليهم. في الواقع كان ذلك بداية التشكيل التاريخي لتجربة السجن الاجتماعية فعلاقة السجين بالخارج ليست علاقة فردية تنحصر في أهله أو أعدائه، إنها علاقة جديدة تقوم على المتابعة لشؤون الخارج المجتمعي والتنظيم من جديد في السجن من أجل الخروج مرة ثانية بعد فرز الشخوص والسجناء السياسيين الذين معه.2
استطاعت هذه الفئة السجنية أن تخلق لنفسها مجتمعاً خاصاً داخل السجن معتمدة في ذلك على خلق منظور مضاد لآلية السجن كعقاب وكنتيجة مقززة. لقد أصبح السجن مدرسة ومكاناً لتنظيم الخلايا وأصبح السجين السياسي وقودا تتزود به الحركة السياسية في الخارج تقارع به التنظيمات السياسية الأخرى. كان من المعتاد أن يتم التفاخر بين التنظيمات السياسية بعدد السجناء السياسيين فمن يملك عددا أكبر يؤهل إلى القيادة والسيادة في المجتمع.
أصبح السجن مكانا لتجميع الرأسمال الرمزي لجدل المجتمع ومكاناً تتحول فيه الضحية إلى رمز. فمن الطبيعي إذن أن تنشأ ثقافة سجنية خاصة تتعامل مع الرموز الثقافية في المجتمع وتخلق لنفسها رموزها الخاصة كالأكل واللبس وتوزيع الوقت وطريقة العيش مع الآخرين أو النزلاء في السجن.
1- أنظر لمزيد من التفاصيل ميشل فوكو، المراقبة والعقاب، مركز الإنماء العربي، بيروت.
2- لعل أقدم وثائق على حدوث هذه التجربة هي ما أوردها عبد الرحمن الباكر في مذكراته «من البحرين إلى المنفى» وقد تكررت هذه التجارب فيما بعد خصوصا في السبعينات وحملات الاعتقالات الواسعة في صفوف الحركة الوطنية. لمزيد من التفاصيل انظر
«الشرارة» النشرة الداخلية للجبهة الشعبية العدد 1 سنة 1975 وكتاب سجناء الحرية الصادر عن الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين والذي يستعرض تجربة أفراد الجبهة المتهمين في قضية انقلاب 1981 وأخيرا ما نشره عبد الشهيد الثور أحد معتقلي أحداث التسعينات عن تجربته السجنية في موقع بحرين أون لا ين الالكتروني.



Prepared by
أHIBA